العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. في أوج التطرف الثوري واليساري

يمنات

أحمد سيف حاشد

كانت المرحلة التي يعيشها الجنوب في تلك الفترة يسارية و ثورية متشددة، و في أفضل الأحوال لا تخلو من نزعات الطيش و التطرف و الحماس الفائض .. كان طلاب “الترحيلات” أثناء ما تقلهم سيارات (اللاندرفر) المكشوفة إلى المدرسة في طور الباحة، أو عند ايابهم، و معهم بعض المواطنين، يرددون هتافات ثورية، و لكن بعضها كان ذات طابع تحريضي لا يخلو من ممارسة الإكراه ضد من هو متحفظ مما يحدث، أو له رأي مختلف فيه .. هتافات لا تخلو من قمع معنوي، ولي ذراع، بل و إرهاب ضد من لا يعلن تأييده لمسار التوجه السياسي الثوري المعلن..

كانت بعض تلك الهتافات تدعي لنفسها أو لأصحابها الحق و الصواب و احتكار الحقيقة، و تمارس الإقصاء بحق المختلف معها .. هتافات لا تقبل التنوع و التعدد في الرأي، و لا تتعاطى مع الرأي الآخر، و تأنس إلى تقسيم الناس إلى “مع و ضد”، و بالتالي تمارس تحريضها الذي يصل حد إرهاب الصامتين، الذين تصفهم بالسلبيين .. إنه موقف شمولي و متطرف خلاصته “أما تكون معنا أو أنت ضدنا” موقف الصامتين او المترددين كان موصوفا بالسلبي، و هو موقف لا يروق لبعض من يعتبروا أنفسهم ثوريين مؤججين بالوعي الثوري، و يتم إرهاب و توعد السلبين بضربهم في المستقبل بيد من حديد..

و من تلك الهتافات التي مازالت عالقة في ذاكرتي:

“يا ويلك ويل يا سلبي من ضربتنا العنيفة .. و المتستر بيُكشف و المراحل طويلة”

هتاف آخر كان يحزُ في نفسي، و يترك أثرا أداريه عمِّن كانوا حولي يقول: “دقوا المشايخ .. دقوهم”، ربما كان السبب يرجع إلى أن إخوة أمي في الشمال محسوبين على فئة “المشايخ” رغم ان ظروفهم كانت متواضعة للغاية و ربما بائسة .. لم تكن ثمة فروق اجتماعية مهمة تُميزهم عن عامة الناس، أو على الأقل بالنسبة للوسط فيهم..

اتذَكر أن خالي أخ أمي (علي سالم ـ دعبل) كان يقترض و يستدين بعض المال من والدي الذي هو أيضا في حال ضيق و غير ميسور .. و كان جدي، والد أمِّي، معروفاً بزهده و تواضعه، و كان يعمل لآخرته على حساب دنياه، و أغلب وقته كان معتكفا يتلو القرآن في ديوانه أو حجرته تقرُّبا إلى ربه، راجيا رحمته و جنته، غير أن هذا لم يعفه من ممارسات تطرف و طيش اليسار في الجنوب، عندما ذهب إلى عدن بغرض تلقِّي العلاج؛ أخفي قسرياً، و انقطعت أخباره مذ ذلك الحين، و لم نعد نعرف شيئا عنه إلى اليوم..

و بين الماضي و الحاضر تشابه المتطرفون بفيض حماسهم الزائد، و ادعاءهم باحتكار الحقيقة و الصواب، و ما عشناه في سنوات الحرب بعد 2015 و ما عانيناه من تطرف، كان يذكرنا بكل من يرى أن الحياة بلونين فقط أبيضا و أسودا .. الحياة لديهم لا تقبل أن تكون محايدا أو بموقف مختلف، أو تكون حتى ضد أطراف الصراع مجتمعين .. و مثل هذا يقال أيضا حيال موقف اطراف الحرب و الصراع من قضايا و حقوق الرأي و التعبير..

يخنقنا مثل هذا التطرف المغلق في وجه التعدد و التنوع .. كل طرف في الحرب كان يريد أن يجرّنا إلى مستنقعه القذر و الملوث، بل و يريد أن يحملنا أو يغمسنا في مستنقعه حتى يصل بنا إلى حضيضه و قيعانه السحيقة .. كل يريد أن تكون في خندقه و اصطفافه .. كل يرى أن الوطن جربة أبوه، بل و يرى ذاته هو الوطن كما يتصور و يعتقد..

و مع السنين بدأت تتكشف كثير من الأوهام، و لكن كانت بكلفة وطن بات ممزقا و مبددا .. إنه زمن التافهين و المتطرفين و المخرجات الرديئة لهذه الحرب المكتظة بالبشاعات و المؤامرات و الكراهية، و المثقلة بالدمار و الخراب الوخيم..

 التطرف خطر ليس على المغاير و المختلف فحسب، و لكن على العقل و الحكمة و التعدد و التنوع و السوية .. خطر على الشعب و المجتمع و المستقبل .. سياسية “من ليس معنا فهو ضدنا” سياسة مرعبة و مدمرة للشعوب و الأوطان و المستقبل الذي ننشده..

الجماعات الدينية المتطرفة تقسم الناس إلى فسطاطين فقط، و بعض الحركات الدينية كالحوثيين توحشت و صارت بعد تمكين تستعدي من ليس معها، و تصفه بالخائن و المرتزق أو المنافق الذي يتعين اخضاعه لمشروعها الخاص و الصغير، أو سحقه ببأسها و قمعها و سطوتها المرعبة، فيما جماعات سياسية أخرى في المقابل تطرفت، و تماهت مع العدوان و الاحتلال حتى صارت حاملة لأجنداته و مُنفّذا لها على حساب الوطن و مستقبله..

و عودة إلى ما كنت بصدده: درست المرحلة الإعدادية في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة محافظة لحج، في أواسط السبعينات و تحديدا من العام (1976 ـ 1978) إن لم تخنِ الذاكرة..

أقمت في (القسم الداخلي) و كان عدد غير قليل من أبناء المناطق الشمالية المجاورة يلتحقون بهذه المدرسة و يقيمون في قسمها الداخلي، و توفر لهم دولة الجنوب التغذية إضافة إلى السكن .. بل كان مدير المدرسة من الشمال  هو عبده علي من قبيطة الأكروب، و كان حسن محمد علي نائبها السياسي من قبيطة صبيح في الشمال، و كذا مسؤول المركز الثقافي كان من معبق و صوالحة الشمال..

كان سبب توجهنا إلى الجنوب للدراسة إما بسبب عدم وجود مدارس إعدادية في أريافنا المُتعبة، و إما لأسباب سياسية و اجتماعية حملتنا على التوجه للدراسة في هذه المدرسة الجنوبية التي لا ننسى معروفها علينا مهما تقادمت الأيام و السنون..

إجمالا كان لدولة الجنوب ـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ـ الفضل الذي لم و لن ننساه و لن نجحده، لقد كنّا بأمس الحاجة للتعليم، و دونها كان افترسنا الجهل و نهبنا الغياب، و ربما ضياعنا كان احتمالا واردا، إن لم يكن بحكم المحقق و الأكيد .. و في هذا المقام لا بأس من استحضار قول الشاعر المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.

***

يتبع

فصلي من مدرسة الشهيد نجيب..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى